الكاتبة هاجر سليمان … في واحدة من أخطر قضايا الفساد التي تكشّفت خيوطها في السودان، تفجّرت فضيحة مدوية داخل قنصلية حلفا، بعد أن كشفت تحقيقات مطولة بالأدلة والمستندات تورط شبكة منظمة من الموظفين والوسطاء والضباط النظاميين، في عمليات احتيال مالي واستغلال نفوذ تتعلق بتأشيرات السفر مقابل رشاوى ضخمة.
بدأت خيوط القصة تتكشف في فبراير 2024، عندما وردت معلومات دقيقة إلى مباحث وادي حلفا تفيد بوجود شبكة تنشط في السوق السوداء لبيع التأشيرات بأسعار باهظة. وتشير التقارير إلى أن المواطنين كانوا يُسجلون طلباتهم للحصول على تأشيرات، إلا أنهم لا يحصلون على الموافقة إلا بعد مرور أكثر من ستة أشهر، ما يفتح الباب أمام شبكات سمسرة تستغل هذا التأخير لتحقيق مكاسب مالية غير مشروعة.
التحقيقات كشفت عن وجود شبكتين تعملان بطريقة متوازية؛ إحداهما تنفذ عملياتها من خلال نافذة القنصلية مباشرة، والأخرى عبر شبكة من السماسرة. تم فتح بلاغ رسمي تحت بند الإجراءات الأولية، ونُفذ كمين أمني محكم بالتنسيق مع مصادر داخل الشبكة، حيث تم تسليم جوازات كمين وهمية إلى أحد السماسرة خارج القنصلية في ساعة مبكرة من الصباح، وتولى مهمة تسليمها لاحقًا للجهات داخل القنصلية.
وكان من بين المتهمين موظف مصري يعمل داخل شباك القنصلية، مسؤول عن استلام وتسليم الجوازات، وشخصيات سودانية تنتمي إلى قطاعات مختلفة من بينها تجارة العملة ووكالات السفر، بالإضافة إلى امرأة لعبت دورًا في انتحال شخصية صاحبات جوازات غائبات، من خلال ارتداء العباءة والنقاب وتقديم نفسها كمقدمة للطلب.
بعد إدخال الجوازات إلى داخل القنصلية، طُلب مبلغ مالي ضخم قُدر بـ12 مليار جنيه مقابل تأشيرات غير قانونية لعدد من الجوازات. لكن الشرطة، التي كانت تتابع تحركات الشبكة بدقة، ألقت القبض على عدد من المتورطين في اللحظة المناسبة، رغم محاولات بعضهم تقديم رشوة ضخمة بلغت 50 مليار جنيه وسيارة فاخرة لأحد أفراد الشرطة المكلفين بالتحقيق، وهو ما قوبل بالرفض وتم استكمال الإجراءات القانونية.
النيابة قامت بتعديل مواد الاتهام لتشمل عدة بنود في القانون الجنائي، من بينها الاحتيال، الرشوة، التزوير، والثراء الحرام، وتم التحفظ على حسابات مصرفية تخص المتهمين، حيث تبين لاحقًا أن التحويلات المالية تتم إلى حسابات تعود إلى أفراد عائلة أحد المتهمين المقيمين بالقاهرة، مما وسع دائرة الاشتباه لتشمل جهات خارجية.
بتفتيش مقار بعض المتهمين تم ضبط عشرات الجوازات، بعضها ممهور بالتأشيرات، إلى جانب مستندات وأجهزة إلكترونية حاول بعض المتورطين إتلافها لإخفاء الأدلة. وتكشّف خلال التحقيق أن عدداً من الضباط النظاميين كانوا يزودون الشبكة بجوازات المواطنين مقابل عمولات، وهو ما تم توثيقه في كراسات ودفاتر محجوزة، حملت أسماء ورتب ومبالغ مفصلة.
واحدة من المفاجآت الصادمة في القضية كانت اعتراف إحدى المتهمات، التي تم القبض عليها داخل منزل أحد المتورطين، بأنها كانت على علاقة غير شرعية معه، وأن دورها يتمثل في تعبئة الاستمارات والتنسيق مع الضباط، في ظل ادعاء أن المتهمين لا يجيدون القراءة والكتابة. وأثناء تفتيش هاتفها تم العثور على مواد مخلة بالآداب وبلاغات إضافية قُيدت في مواجهتها.
توغلت التحقيقات أكثر لتكشف عن علاقة مباشرة بين بعض المتهمين ومسؤولين في القنصلية المصرية، وتم ضبط مبالغ مالية ضخمة وعملات أجنبية إلى جانب جوازات سفر إضافية ومجوهرات، ما عزز الشبهات حول وجود شبكة معقدة تحظى بحماية أو تغاضٍ من بعض الجهات النافذة.
وفي تطور مفاجئ، وبعد تحلل مالي مشبوه حُولت بموجبه أموال إلى حساب موظفة نيابية، قام أحد المتهمين لاحقًا بتقديم بلاغ ضد فرد من الشرطة متهماً إياه بسرقة ذهب، رغم أن البلاغ أُقيد بعد خمسة أشهر من تسليمه لمضبوطاته، وهو ما اعتبره المراقبون محاولة للانتقام من أفراد الشرطة الذين قادوا العملية وكشفوا المستور.
التدخلات السياسية لم تكن بعيدة عن المشهد، إذ كشفت مصادر عن تدخلات من مسؤولين محليين بهدف إطفاء البلاغات وحماية بعض المتهمين، وتم بالفعل نقل عدد من أفراد القوة الأمنية الذين نفذوا الكمين إلى مناطق أخرى بطريقة وصفت بأنها “عقابية”، في وقت لم تُنفذ فيه توجيهات رسمية من النائب العام بإعادة فتح البلاغ، مما يشير إلى وجود ضغوط نافذة تسعى لطي الملف.
ورغم محاولات طمس الحقيقة، تتواصل الضغوط لكشف تفاصيل الملف بالكامل، خاصة بعد صدور توجيهات جديدة لنقل البلاغ من حلفا إلى دنقلا، وسط وعود من جهات عدلية بمتابعة القضية حتى النهاية. في المقابل، تلوح تهديدات من جهات صحفية وقانونية بنشر أسماء جميع المتورطين، بمن فيهم ضباط النظاميين والنافذين، ما لم تتحرك العدالة بصورة عاجلة وجادة.
القضية ما تزال مفتوحة على احتمالات كثيرة، والمقالات القادمة قد تحمل مفاجآت إضافية حول الاجتماعات السرية، والصفقات الخلفية، والجهات التي خططت لتسليم الملف لمتحرين من ذوي الرتب الصغيرة، في خطوة أثارت شكوكاً واسعة حول محاولة دفن الملف في أدراج الصمت.
